الجمعة، 6 يناير 2017

حقوق المعارضة البرلمانية/ المعارضة البرلمانية في النظم الرئاسية/



الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان
اليوم الدراسي حول حقوق المعارضة البرلمانية في الدستور الجزائري
 وفي الأنظمة المقارنة،
 يوم 7 ديسمبر 2016.


أي مكانة للمعارضة في النظم الرئاسية

بقلم: الأستاذ الدكتور عمار عباس؛

أستاذ التعليم العالي؛

باحث في القانون الدستوري والنظم السياسية؛

رئيس مشروع بحث حول

"الإصلاحات السياسية والدستورية في الجزائر"؛

كلية الحقوق والعلوم السياسية ؛

جامعة مصطفى اسطمبولي، معسكر، الجزائر.
abbas.ammar@univ-mascara.dz










مقدمة:

تتباين طبيعة الأنظمة السياسية بالنظر إلى نوع العلاقة القائمة بين السلطات في الدولة، خاصة السلطتين التنفيذية والتشريعية، فنجد منها من تقوم على الفصل المطلق أو المتشدد بين السلطات، فتصنف في خانة الأنظمة الرئاسية، ومنها من تلطف من حدة هذا الفصل ليكون مرنا، فتدرج في صنف الأنظمة البرلمانية،بين  ومنها من تجمع خصائص الشدة والمرونة في العلاقة بين السلطات، لذلك تدعى بالأنظمة المختلطة[1].
تقوم الأنظمة الديمقراطية، باختلاف تصنيفاتها على مبدأ حكم الشعب، غير أن أي نظام ديمقراطي لا يستقيم، إلا بتوافر عناصر أخرى، تشكل أسسا  صلبة يقوم عليها بنيانه، كحرية الرأي والتعددية الحزبية، وقبول التناوب الدوري والسلمي على السلطة، الأمر الذي يفضي بالضرورة إلى تواجد أغلبية حاكمة وأقلية تعارضها، تستعد لتولي مقاليد الحكم، لذلك تحرص الدساتير والقوانين المنبثقة عنها، على إعطاء حقوق للمعارضة، بالنظر لأهمية الدور الذي تقوم به، سواء في تصويب عمل الحكومات القائمة، من خلال انتقادها وطرح البدائل لسياساتها المنتهجة في تدبير الشأن العام.
عندما تمارس المعارضة بدورها في النقد، فإنها في الواقع تؤدي وظائف متعددة، لعل أبرزها تأهيل النخب التي تتأهب للوصول إلى الحكم، أو على الأقل المشاركة في إدارة الشأن العام، كما تلعب دورا كبيرا في تأطير الاحتجاجات الناجمة عن السياسات المنتهجة من قبل الحكومات القائمة، وتقديمها في أطر شرعية، كما أن ممارستها للرقابة المستمرة على عمل هذه الحكومات، يجعل منها مساهما فعالا في محاربة الفساد بمختلف أشكاله وعلى رأسها إهدار المال العام[2].
حتى تقوم المعارضة الشرعية بهذه الأدوار الهامة، فلا بد من تمتعها بمجموعة من الحقوق سواء داخل البرلمان أو خارجه، على رأسها حرية إبداء الرأي والاستفادة من تمويل عمومي وحق الولوج  لوسائل الإعلام  العمومي، كما تمكن المعارضة التي تتبوأ مقاعد في البرلمان بحق المساهمة في العمل البرلماني، واستخدام مختلف وسائل الرقابة المتاحة لأعضائه على قدم المساواة مع الأغلبية البرلمانية[3].
غير أن هذه الحقوق تقابلها واجبات، على رأسها الالتزام بالعمل السلمي ونبذ العنف بمختلف أشكاله كوسيلة للوصول لسدة الحكم، والإعلاء من المصالح العليا للبلاد والدفاع عنها مثلها مثل الأغلبية الحاكمة.
غير أن المعارضة وإن كانت متواجدة في مختلف الأنظمة السياسية، إلا أن شكلها وآلياتها تختلف باختلاف طبيعة النظام السياسي؛ فإذا كانت المعارضة في النظام البرلماني يمثلها التيار السياسي الذي يحتل المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية، فإن النظام السياسي الرئاسي وعلى رأسه النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، لا يعرف معارضة قارة ومنسجمة، على اعتبار أنها تتغير بتغير مصالح أعضاء البرلمان، وحسب المواضيع المعروضة للتصويت في البرلمان، وبناء على طبيعة العلاقة القائمة مع رئيس الدولة.

يختلف شكل المعارضة في النظام الرئاسي عنه في النظام البرلماني، فإذا كان هذا الأخير تتولى فيه الأقلية التي خسرت الانتخابات التشريعية معارضة سياسة الحكومة  المستندة على الأغلبية المشكلة للبرلمان أو بالتحديد للغرفة السفلى منه في حالة تشكله من غرفتين، على غرار مجلس العموم في النظام السياسي البريطاني، أين يتميز النظام الحزبي بالانضباط واستمرار الخيارات مما يوفر الاستقرار الحكومي، "ويرجع هذا الاستقرار إلى نظام الحزبين، أي وجود أغلبية في مجلس العموم تضمن للحكومة استمرارها، لذلك فإن القواعد الدستورية للمسئولية السياسية للحكومة أمام المجلس لا تجد لها تطبيقا"[4].
 أما في الولايات المتحدة الأمريكية وإن كانت المعارضة تتجسد أكثر في حزب المترشح الخاسر للانتخابات الرئاسية، خاصة في حالة سيطرته على غرفتي الكونغرس أو إحداهما، إلا أن ذلك لا يعني استمرارية هذا المشهد بل يتغير تكوين المعارضة بتغير المصالح، حيث تنضم أصوات البرلمانيين المنتمين للحزب الديمقراطي للحزب الجمهوري والعكس صحيح، حسب المواضيع المطروحة للتصويت، بسبب غياب الانضباط الحزبي (مطلب أول).
كل هذا لا يعني غياب معارضة لسياسة الرئيس في النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، وعدم امتلاكها لوسائل للضغط والتأثير عليه، بل أن هذه الوسائل متعددة، وقد تصل إلى حد عزل رئيس الدولة (مطلب ثاني)، على خلاف ذلك تقل حدة المعارضة في الأنظمة التي حاولت  استنساخ النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، بسب تحول هذه الأنظمة إلى أنظمة رئاسوية تتقوى فيها مكانة رئيس الدولة في غياب وسائل تكبح جموحه في الانفراد بالسلطة (مطلب ثالث).

المطلب الأول: شكل المعارضة في النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية وآليات التأثير التي تمتلكها

يتميز النظام الحزبي في الولايات المتحدة الأمريكية بالثنائية الحزبية الموحدة bipartisme unitaire)على اعتبار أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي الذين يتقاسمان السلطة، هما المكونان الرئيسيان لمجتمع متوافق في الأساس، فالحزبان هما واجهتين لحزب واحد ليبرالي، فالرئيس يمكن أن يكون جمهوريا والكونغرس ديمقراطيا، رغم انتخابهما في وقت واحد[5].
يسيطر الحزبان الجمهوري والديمقراطي على الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم وجود أحزاب أخرى لكنها تبقى هامشية وغير مؤثرة؛ كما تتميز الثنائية الحزبية في الولايات المتحدة الأمريكية بالمرونة، حيث لا تظهر هذه الثنائية إلا أثناء الانتخابات، وتتلاشى أثناء التصويت داخل الكونغرس، نظرا لعدم الانضباط الذي يعرفه النظام الحزبي؛ على خلاف ما هو سائد في النظام السياسي البريطاني، حيث لا تعني الانتخابات  التشريعية اختيار أعضاء مجلس العموم فقط، ولكن انتخاب رئيس للحكومة، خاصة مع التزام الملكة عرفيا، بتعيين زعيم الحزب الفائز بالأغلبية المطلقة لمقاعد مجلس العموم وزيرا أولا، ومن ثم تكون الأغلبية مطالبة بمساندة الحكومة باستمرار وتتولى الأقلية معارضتها.
 لا يوجد في النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية أغلبية ثابتة، بل هناك أغلبيات متغيرة، تتنوع بالنظر إلى طبيعة المواضيع والمسائل المعروضة للتصويت، لذلك غالبا ما يحدث أن يصوت برلمانيون ينتمون للحزب الجمهوري مع نظرائهم من الحزب الديمقراطي والعكس صحيح[6].
كما لا يصادف في الولايات المتحدة الأمريكية أن تتواجد معارضة للرئيس من الحزب الثاني، على اعتبار أن حرية التصويت كاملة نتيجة عدم الانضباط الحزبي، لذلك فثقافة الأغلبية محدودة[7]

المطلب الثاني: آليات معارضة سياسة الرئيس في النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية

 هناك آليات عديدة يمكن أن تستخدم من قبل أعضاء الكونغرس المعارضين لسياسة الرئيس وطريقة إدارته للشأن العام (فرع أول)، وبالموازاة مع ذلك تتدخل مؤسسات أخرى للتأثير على الرئيس، على غرار جماعات الضغط والمحكمة العليا التي تعتبر سلطة مضادة للرئيس والكونغرس في نفس الوقت (فرع الثاني).
 
فرع أول: وسائل التأثير التي يمتلكها أعضاء الكونغرس في مواجهة الرئيس

نظرا لقيام النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية على مبدأ الفصل المطلق بين السلطات، ينفرد الكونغرس بسلطة التشريع في المجالات التي حددها له الدستور الاتحادي، وفي مقابل ذلك لا يمتلك الرئيس هذه السلطة بشكل مباشر، ونظرا لأن التشريع  هو الآلية التي تنفذ بها السياسات وتترجم على أرض الواقع، يستطيع الكونغرس أن يعرقل تنفيذ الرئيس لبرنامجه برفض التصويت على القوانين التي تستهدف ذلك، غير أنه في مقابل ذلك هناك آليات تتيح للرئيس التشريع بشكل غير مباشر، كتمرير مشاريع قوانين عبر أعضاء الكونغرس الموالين له، زيادة على دعوة الكونغرس للتشريع في مجالات معينة بمناسبة خطاباته السنوية التي يوجهها للكونغرس حول حالة الاتحاد، ويبقى حق الفيتو أقوى آلية تسمح للرئيس بتعطيل القوانين التي تتعارض مع برنامجه ولو مؤقتا.
زيادة على احتكار سلطة التشريع، يتمتع الكونغرس بسلطة التحقيق في القضايا الهامة وفي سير المرافق العمومية، من خلال التحقيق الذي تقوم به لجانه الدائمة في مجال اختصاصها، إضافة إلى اللجان المؤقتة التي تنشأ للتحقيق في مواضيع محددة، وقد أكدت المحكمة العليا هذا الحق للكونغرس واعتبرته من وظائفه الدستورية[8].
تتجلى أهمية لجان التحقيق التي يشكلها الكونغرس في الولايات المتحدة الأمريكية، في سلطتها في استدعاء الشهود، وإلزامهم بتقديم الوثائق المطلوبة منهم، كما يمكنها  تسليط عقوبات عليهم في حالة المخالفة، كما أن قوة هذه اللجان تستمد من خلال وضعها للإجراءات المتبعة أمامها[9].
وإذا كان الكونغرس لا يمتلك صلاحية تقرير المسئولية السياسية للرئيس، إلا أنه في مقابل ذلك بإمكانه إدانته جنائيا، حيث يمكن لمجلس النواب توجيه الاتهام الجنائي للرئيس في حالة ارتكابه لجنايات أو جنح بمناسبة تأدية وظائفه، على أن تتم محاكمته من طرف مجلس الشيوخ تحت رئاسة رئيس المحكمة العليا،  وتتم إدانته بالتصويت على هذا الاتهام بأغلبية ثلثي أعضاءه، وفي هذا الإطار استقال الرئيس نيكسون في 09/07/1974، على إثر الاتهام الموجه له من طرف مجلس النواب في حادثة التصنت المشهورة بوترغيت، مستبقا إدانته المؤكدة من قبل مجلس الشيوخ[10]، وفي مقابل ذلك فشل مجلس الشيوخ في إدانة الرئيس بيل كلنتون بعد اتهامه بالتحرش الجنسي على إحدى المتربصات بالبيت الأبيض، في القضية المعروفة بمونيكاغيت سنة 1998، لعدم تمكن الجمهوريين  من توفير الأغلبية المطلوبة[11].
تبرز خطورة تقرير الاتهام الجنائي من حيث أنه يفضي إلى العزل من المنصب، سواء تعلق الأمر برئيس الدولة أو بكبار الموظفين الفدراليين[12]، مما يجعل النتائج المترتبة عليه، شبيهة لنتائج تقرير المسؤولية السياسية للحكومة في الأنظمة البرلمانية، علما أن المسؤولية الجنائية كانت سابقة في الظهور عن المسؤولية السياسية التي حلت محلها في النظام السياسي البريطاني[13].
رغم بلوغ مكانة رئيس الدولة لذروتها في عهدة الرئيس نيكسون(1969-1974)، وفي السنوات الأخيرة، لكن هذا التفوق لمؤسسة الرئاسة، لا يمس بالديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعرف فيها ممارسة الحريات العامة إزهارا أكثر من أي بلد آخر، وذلك ناتج عن الدور الذي يقوم به كل من الكونغرس والمحكمة العليا في كبح جماح السلطة التنفيذية ومن ثم الحفاظ على توازن السلطات، ولعل أبرز مثال على ذلك، دفع الرئيس نيكسون للاستقالة سنة 1974، تجنبا للعزل في قضية وترغيت[14].

الفرع الثاني: دور المحكمة العليا وجماعات المصالح  والرأي العام في الميدان السياسي


تلعب المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية دورا كبيرا في المجال السياسي باعتبارها سلطة مضادة لكل من الرئيس والكونغرس، وذلك من خلال تفسيرها للدستور، حيث أعطت للقضاء بمختلف درجاته، حق الرقابة على دستورية القوانين دون حاجة لنص دستوري صريح، وهو المبدأ  الذي أكدته  المحكمة العليا، برئاسة القاضي جون مارشال (John Marshall) في قضية (ماربوري ضد ماديسون (Marbury vs Madison) سنة 1803 )، معتبرة أن واجب القضاء هو تفسير الدستور واستبعاد القانون الذي يتعارض معه[15]، وقد خلدت خلاصة هذا الحكم بنقشها على جدار المحكمة الفدرالية[16].
كما ساهمت المحكمة العليا في عرقلة المشاريع الإصلاحية للرئيس روزفلت سنة 1947، الأمر الذي دفع البعض إلى وصف هذا الوضع"بحكومة القضاة"، تعبيرا عن تدخل المحكمة العليا في الشأن السياسي وحلولها محل السلطة التنفيذية[17]، وقد برزت قوة المحكمة العليا بشكل واضح عندما دفعت الرئيس نيكسون للاستقالة، واستدعت فورد للمثول أمامها، كما عارضت سياسة التفرقة بين البيض والسود، وقامت بحماية الموظفين الشيوعيين من الاضطهاد[18].
من جهة أخرى، تؤثر  مجموعات المصالح أو اللوبيات على اللعبة السياسية  في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقارب عددها في هذا البلد المليون جمعية، تنفق أكثر من خمسون(50) مليار دولار سنويا للدفاع عن  مصالحها وتحقيق أهدافها، وتتعدد أشكال هذه اللوبيات حيث نجد منها العامة والخاصة، والاقتصادية، بما فيها لوبيات الشركات العالمية الكبرى وحتى تلك التي تمثل مصالح الدول الأجنبية، علما أن اللوبي الرئاسي يعتبر أقوى اللوبيات في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تشهد الساحة السياسية صراعا حادا بين اللوبي الإسرائيلي وغريمه الممثل للأمريكان العرب، حيث بلغ هذا الصراع ذروته، في عملية بيع طائرات الأواكس للملكة العربية السعودية، وقصد إدارة المفاوضات مع هذه اللوبيات يستعين أعضاء الكونغرس في أداء مهامهم بمصالح مختصة ومساعدين أكفاء، خاصة وأن هذه اللوبيات تضغط دائما على الكونغرس للتشريع في اتجاه معين[19]، وكذلك على الرئيس، لدفعه لاتخاذ مواقف معينة خدمة لمصالحها.
كما تعرف الولايات المتحدة الأمريكية ضغطا كبيرا للرأي العام، ينعكس على سير المؤسساتت السياسية، سواء عبر الانتخابات أو من خلال تأثير الصحافة على الحياة السياسية، خاصة إذا عرفنا بأن المواطن الأمريكي يعيش على وقع الانتخابات سواء على مستوى الدولة الفدرالية أو على مستوى ولايته[20]، مما يتيح له سحب الثقة من منتخبيه في الكونغرس أو حتى من رئيس الدولة في المواعيد الانتخابية، خاصة مع قصر العهدة الانتخابية، التي لا تتجاوز سنتين في مجلس النواب، وأربع سنوات بالنسبة لرئيس الدولة، ومن ثم تكون المواعيد الانتخابية مناسبة لمحاسبة المنتخبين بمختلف درجاتهم.
 لقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية فشل بعض الرؤساء في الحصول على ثقة الناخبين لتجديد عهدتهم الانتخابية، على غرار الرئيسين جورج بوش الابن الجمهوري، وبيل كلنتون الديمقراطي، وهذا ما يؤكد أن"انعدام  المسئولية أمام ممثلي الشعب لا يعني حتما الانعدام التام لمسئولية الحكام أو انعدام الديمقراطية، وإنما تطور النظم السياسية ومؤسساتها أدى إلى تغيير كل من الجهة المسئولة والجهة المسائلة"[21].

المطلب الثالث: فشل استنساخ النظام الرئاسي والمطالبة بنظام برلماني أو مختلط

حاولت كثير من الدول في أمريكا الوسطى والجنوبية وإفريقيا، استنساخ النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان الدافع الرئيس لذلك، هو توحيد القيادة ووضع السلطة التنفيذية لدى رئيس للجمهورية يستمد شرعيته من الهيئة الناخبة مباشرة، ينتخب على أساس برنامج، الأمر الذي يبرر منحه صلاحيات واسعة لتنفيذه، بهدف تحقيق التنمية، التي كانت مطلبا في مراحل ما بعد الاستقلال ولا زالت[22].
غير أن تركيز السلطة في يد رئيس الدولة، في غياب وسائل للتأثير عليه ومراقبته من قبل البرلمان،  حولت هذه الأنظمة إلى رئاسوية، مما أفقد للمعارضة معناها، حيث نتج عن سيطرة حزب واحد أو ائتلاف حزبي على السلطتين التنفيذية والتشريعية، الحيلولة دون وجود معارضة قوية، قادرة على مسائلة الحكومة القائمة، ومن ثم، بقيت المسئولية السياسية التي يمكن تقريرها، هي تلك التي يمكن للناخبين تحريكها بمناسبة المواعيد الانتخابية، وذلك بسحب الثقة من التيار السياسي الحاكم، ومنحها لتيار سياسي آخر، يرون بأنه قادر على تحقيق  مطالبهم[23].
         غير أن سيناريو كهذا، يبقى بعيد المآل، فعلى حد قول الأستاذ يلس شاوش بشير، فإن هذا النوع من الديمقراطية لا يمكن تحقيقه"إلا إذا توافرت إمكانية إقامة مسئولية الحزب الحاكم أما الشعب (الناخبين) مباشرة، ولا يمكن أن تقام هذه المسئولية إلا بنشوء نظام يقوم على أساس التعددية الحزبية الفعلية الذي يوفر الفرصة لمختلف الأحزاب التداول على الحكم"[24]؛  ولو أن الممارسة السياسية في الجزائر، أثبتت معاقبة الناخبين للحزب الحاكم على الأقل في فرصتين، بمناسبة الانتخابات التشريعية التي تم إيقافها  في دورها الأول سنة 1991، وتلك التي جرت في ماي 2002[25].
لقد كانت المطالب كبيرة في فترات التحول الديمقراطي، خاصة بعد نهاية الثمانيات وسقوط معظم الأنظمة الاشتراكية، حيث تم التخلي عن الأنظمة الرئاسوية واستبدالها بأنظمة برلمانية أو على الأقل شبه رئاسية، من شأنها إتاحة التناوب على السلطة، مما يعطي للمنافسة الحزبية معناها، خاصة بمناسبة الانتخابات التشريعية[26].   
إن العيوب التي ترتبت عن فشل عملية استنساخ النظام الرئاسي الأمريكي، دفعت إلى المطالبة بالتخلي عنه، واستبداله بنظام برلماني، أو على الأقل في مرحلة أولى، بنظام شبه رئاسي أو مختلط على الطريقة الفرنسية، يجمع بين خصائص النظامين الرئاسي والبرلماني، وقد استندت قوى المعارضة على مجموعة من المبررات نوردها فيما يلي:
-عدم التوازن بين السلطات: إذا كان مبدأ التوازن بين السلطات هو أحد دعائم النظام الرئاسي النموذجي، كما هو عليه الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن سيطرة السلطة التنفيذية وتفوقها على جميع السلطات، هي السمة الغالبة في الأنظمة الرئاسوية؛ لذلك كله فمن شأن تبني النظام البرلماني، تحقيق التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؛ من خلال قاعدة توازن الرعب، التي تجعل نهاية كل سلطة في يد نظيرتها[27]؛
-وجود السلطة وغياب المسئولية: رغم الصلاحيات الكثيرة التي تخولها الدساتير لرئيس الدولة في الأنظمة الرئاسوية، إلا أن ذلك يقابله انعدام للمسئولية؛ فإذا كانت المسئولية السياسية تتنافى مع النظام الرئاسي، خاصة في ظل الأنظمة الجمهورية التي يعتبر فيها رئيس الدولة مسئولا سياسيا فقط أمام هيئة الناخبين بمناسبة الاستشارة الانتخابية الرئاسية، إلا أن استبعاد مسئوليته الجنائية، يتنافى مع أحد مقومات الأنظمة الرئاسية[28]؛ ومن ثم فالنظام البرلماني، من شأنه أن يوفر للمعارضة وسائل رقابية عديدة تتمكن من خلالها مراقبة الحكومة على الخصوص، بل وإمكانية إزاحتها من الحكم؛
-العهدات الرئاسية المفتوحة: تفتقر كثير من دساتير الدول ذات النظام الرئاسوي، لنص صريح يحدد عدد المرات التي يمكن أن تجدد فيها العهدة الرئاسية، الأمر الذي يؤدي إلى افتقاد مبدأ التداول السلمي على السلطة لمعناه، فباستثناء ما حدث في الجزائر بتسليم السلطة بين رئيسين منتخبين سنة 1999[29]، وما جرى في مصر بعد الثورة، بنقل الجيش للسلطة التنفيذية لرئيس مدني منتخب[30]، شهدت كثير من الدساتير، خاصة العربية والإفريقية منها، تعديلات جزئية بغرض فتح العهدات الرئاسية لعدة فترات[31]، عكس التوجه الغالب في الأنظمة الديمقراطية، حتى الرئاسية منها، والتي عرفت تحديدا للعهدة الرئاسية  لفترة واحدة غير قابلة للتجديد، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا[32].
في هذا الإطار، إذا كان التعديل الدستوري في الجزائر لسنة 2008، قد أتاح لرئيس الجمهورية إمكانية تجديد عهدته لأكثر من مرة[33]؛ إلا أن هذا التوجه تم التراجع عنه في التعديل الدستوري لسنة 2016، والذي أصبحت العهدة الرئاسية بموجبه قابلة للتجديد لمرة واحدة  فقط، مع النص كذلك على عدم قابلية هذا التحديد لأي تعديل[34].
          إن النظام البرلماني أو الشبه الرئاسي هو الإطار الذي يمكن أن تتحصل فيه المعارضة على حقوقها، باعتباره يسمح بترسيخ مبدأ التداول السلمي على السلطة، من خلال الانتخابات التشريعية الدورية، سواء تلك التي تجري في وقتها أو حتى قبل أوانها[35]،  أين تتاح الفرصة للناخبين لمنح مقاليد السلطة لمن يرونه أهلا لها؛ أما النظام الرئاسي وبالصورة التي استنسخ بها في الدول العربية والإفريقية وأمريكا اللاتينية، يفقد التعددية الحزبية معناها، ويقضي على جوهر وجود المعارضة أصلا، فالأحزاب لا تجد رغبة في العمل السياسي النزيه، ما دامت فرصتها في الوصول إلى سدة الحكم ضئيلة، وحتى وإن وصلت فهي، مطالبة بتطبيق برنامج رئيس الدولة ومساندته، على خلاف ذلك، يتيح النظام البرلماني أو الشبه الرئاسي، للحزب أو الائتلاف الفائز في الانتخابات التشريعية، تولي رئاسة الحكومة وتشكيلها وتطبيق برنامجها.


[1] -أنظر بالتفصيل، عمار عباس، العلاقة بين السلطات في الأنظمة السياسية المعاصرة وفي النظام السياسي الجزائري، دار الخلدونية، الجزائر، 2010.

[2]-أنظر برهان غليون، في معنى المعارضة السياسية ووظيفتها، الحوار المتمدن، العدد 2276، 5/09/ 2008.

[3] -أنظر -زكريا أقنوش، المعارضة البرلماني بين النص الدستوري والواقع السياسي، مجلة مسالك، عدد 39/40، السنة 12، 2016، ص ص171-184؛ عثمان الزياني، الحماية الدستورية لحقوق المعارضة البرلمانية، مقاربة على ضوء دستور 2011، منشورات مجلة الحقوق، دون تاريخ، ص ص 65-94.

[4]- إيهاب زكي سلام، الرقابة السياسية على أعمال السلطة التنفيذية في النظام البرلماني،  عالم الكتب، 1983، ص 171.
[5] -Claude Leclercq, droit constitutionnel et institutions politiques, sixième édition Litec, 1989, p. 240.

[6] --Claude Leclercq, . cit, p. 240.
[7] - -Olivier Duhamel, Guillaume Tusseau, op. cit, p. 216.
[8]- محمد باهي أبو يونس، الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة في النظامين المصري والكويتي، دار الجامعة الجديدة للنشر، 2002، ص 108.
-cf, Yves Meny, politique comparée, Paris, Montchrestien, 5e éd, 1995, pp. 240-241.
[9]- وهو ما يوضحه رئيس إحدى هذه اللجان لأحد الشهود بقوله:
-"…Les droits que vous avez sont les droits que vous donne cette commission. Nous déterminons quels droits vous avez et quels droits vous n'avez pas devant cette commission", Marie-France Toinet, le système politique des Etats-Unis, Paris, P.U.F, 1987, pp. 156-158.

[10] -وقد كان الاتهام الجنائي الذي وجهه مجلس النواب إلى الرئيس الامريكي  نيكسون  في 09/08/1974،  في القضية المعروفة بوترغيت . Watergate التي أثارتها صحيفة الواشنطن بوستWashington post  ثم تلقفتها القنوات التلفزيونية.
[11] -Jean Gicquel, Jean-Eric Gicquel, op. cit, p. -Jean Gicquel, Jean-Eric Gicquel, op. cit, p.304.
[12] -أنظر المادة 1 قسم 3 فقرة 6 من دستور الولايات المتحدة الأمريكية.
[13] -أنظر محمد كامل ليلة، المرجع السابق، ص 908 -909.
[14]-Claude Leclerq, op. cit, p. 236.
[15] -C’est précisément le domaine et le devoir du pouvoir judiciaire de dire ce qu’est la loi. Ceux qui appliquent une règle à un cas particulier doivent nécessairement exposer et interpréter cette règle”, Arrêt 5 U.S.137 rendu le 24 février 1803 par la cour suprême des Etats-Unis dans l'affaire Marbury V. Madison.
[16] -خلدت أهم جملة من الحكم المتترتب  على قضية ماربوري ضد ماديسون بنقشها على أحد جدران المحكمة الفدرالية :
« It is emphatically the province and duty of the Judicial Department to say what the law is ».
[17]-Cf, Édouard LAMBERT : Le gouvernement des juges et la lutte contre la législation sociale aux États-Unis; l'expérience américaine du contrôle judiciaire de la constitutionnalité des lois, Giard, Paris, 1921
[18] -أحمد حضراني، الأنظمة السياسية المقارنة، مقاربة للتجارب الدولية والمغرب، الطبعة الأولى، 2015، ص 65.
[19] -claude Leclerq, droit constitutionnel et institutions politiques, sizizmz édition,Litec, 1989, p. 217.
[20] -فإضافة إلى الانتخابات الفدرالية، فالمواطن الأمريكي مدعو لانتخاب حاكم ولايته وقضاتها وقائد الشرطة ورئيس البلدية وأعضاء البرلمان المحلي، إضافة إلى ذلك فإنه قد يدعى في بعض الولايات  إلى الاستفتاء على بعض المقترحات التشريعية، إضافة إلى فصله في بين المرشحين للانتخابات الرئاسية.
[21]- يلس شاوش بشير، انتفاء مسئولية الحكومة أمام مجلس النواب...، مرجع سبق ذكره، ص 353.
[22] -أنظر أحمد حضراني، الأنظمة السياسية المقارنة، مقاربة للتجارب الدولية والمغرب، الطبعة الأولى، 2015، ص 38 هامش 1.
[23] -أنظر عمار عباس، تطور الرقابة البرلمانية في النظام السياسي الجزائري، رسالة دكتوراه، جامعة السانيا، وهران، 2005.
[24]- نفس المرجع، ص 352.
[25]-اعتبرت الانتخابات التشريعية لسنتي 19914و 2002 بمثابة معاقبة للحزب الحاكم، حيث نالت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الأغلبية المطلقة لمقاعد المجلس الشعبي الوطني على حساب جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم آنذاك، وقد اعتبرت هذه الانتخابات بمثابة عقاب لها، كما نالت هذه الأخيرة الأغلبية المطلقة لمقاعد المجلس الشعبي الوطني على حساب الحزب الحاكم آنذاك التجمع الوطني الديمقراطي، هذا الأخير الذي كان يسيطر على كل المجالس المنتخبة سواء على المستوى الوطني أو المحلي، عقب الانتخابات التشريعية التي جرت  في جوان من سنة 1997، والانتخابات المحلية التي جرت في أكتوبر من نفس السنة.
[26] -Cf, Jean-Louis Thiebault, les périls du régime présidentiel, revue internationale de politique comparée, 2006 Vol 13, pp. 95-113.
[27] -ويتعلق الأمر هنا بحق حل البرلمان الممنوح للسلطة التنفيذية وتقرير المسؤولية السياسية للحكومة من طرف هذا الأخير، وهو توازن غائب في ظل الأنظمة السياسية العربية التي عادة ما تجعل البرلمان تحت رحمة الرئيس أو الملك أو الأمير.
[28]-رغم انعدام المسئولية السياسية لرئيس الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه مسئول جنائيا عن الجنايات والجنح التي قد يرتكبها بمناسبة تأديته لمهامه، حيث يتهم من طرف مجلس النواب ويحاكم من طرف مجلس الشيوخ، علما أن الدستور الجزائري لسنة 1996، تبنى هو الآخر مبدأ المسؤولية الجنائية لكل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة؛ أنظر في هذا الصدد عبد الرؤوف هاشم بسيوني، اتهام رئيس الجمهورية ومحاكمته في النظام الأمريكي (المحاكمة البرلمانية)، دار النهضة العربية، 2002.

[29] -قام رئيس الجمهورية السيد اليامين زروال بتسليم مهام رئاسة الجمهورية  إلى السيد عبد العزيز بوتفليقة عقب الانتخابات الرئاسية التي جرت سنة 1999.
[30] -سلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية في 30 جوان 2012 مقاليد السلطة للرئيس محمد مرسي الفائز في الانتخابات الرئاسية التعددية التي شهدتها مصر بعد ثورة 25 جانفي 2011.
[31] -أصبحت صياغة الفقرة الثانية من المادة 74 من الدستور بعد التعديل على النحو التالي"يمكن تجديد انتخاب رئيس الجمهورية"، أنظر رأي المجلس الدستوري رقم 01-08.
[32] -حيث منع  التعديل الثاني والعشرين لدستور الولايات المتحدة الذي تمت المصادقة علية في 27 فيفري 1951 انتخاب أي شخص لمنصب الرئيس لأكثر من فترتين رئاسيتين، وقد كان هذا التعديل بسبب تولي  فرونكلين روزفلت F. Rosvelt رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية لأربع مرات، ولم يترشح بعد ذلك أي رئيس آخر لأكثر من فترتين رئاسيتين متتاليتين؛ كما كانت المهمة الرئاسية في فرنسا مفتوحة قابلة للتجديد لأكثر من مرة، غير أنه تم اللجوء إلى التقليل من مدتها أولا وتحديديها ثانيا في عهدتين فقط، بمقتضى التعديلين الدستوريين لسنتي 2000 و 2008.
-Cf., Loi constitutionnelle n° 2000-964 du 2 octobre 2000 ; Loi constitutionnelle n° 2008-724 du 23 juillet 2008 de modernisation des institutions de la Ve République.
[33] -أرسى التعديل الدستوري لسنة 2008 في الجزائر، لمبدأ مفاده قابلية انتخاب رئيس الجمهورية دون تحديد لعدد الفترات الرئاسية، بغية تمكين الشعب من"ممارسة حقه المشروع في اختيار من يقود مصيره، وأن يجدّد الثقة فيه بكل سيادةمن كلمة رئيس الجمهورية عند افتتاحه للسنة القضائية 2008/2009"؛ وأضاف في نفس السياق" لا يحق لأحد أن يقيِّد حرية الشعب في التعبير عن إرادته، فالعلاقة بين الحاكم المنتخَب والمواطن الناخِب هي علاقة ثقة عميقة متبادلة، قوامها الاختيار الشعبي الحرّ والتزكية بحرية وقناعة. ...إن التداول الحقيقي على السلطة ينبثق عن الاختيار الحرّ، الذي يقرره الشعب بنفسه، عندما تتم استشارته بكل ديمقراطية وشفافية في انتخابات حرّة تعددية، إذن، للشعب والشعبِِ وحدِه تعود سلطة القرار".
[34] -أنظر المادة 112 فقر 8، من دستور 2016.
[35] -في بريطانيا نادرا ما ينهي مجلس العموم عهدته المقررة بخمس سنوات، حيث غالبا ما يلجأ إلى حله في الوقت المناسب لتنظيم انتخابات تشريعية مسبقة تسمح بفوز الحزب الحاكم.

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. شكرا لك يا أستاد على المقالات المميزة و المدونة الرائعة , حقا مقالات تتميز بالشرح و التحليل الوافي لا نجدها في الكتب
    كما أقترح عليك يا أستاد أن تنشيء صفحة خاصة بك على الفايسبوك تنشر بها مقالاتك بالتوازي مع هده المدونة مع العلم ان المدونات الإلكثرونية ك blogger و wordpress قد فقدت بريقها أمام موقع التواصل الإجتماعي facebook و هدا لتميزه بخاصية التفاعل الأني بين كل المستخدمين من التعاليق و المشاركات comments and shares . فيزداد عدد القراء و تعم الفائدة
    أرجو ان تأخد برأيي
    يا أستاد, انا طالب سنة اولى حقوق بجامعة سكيكدة ولدي سؤال أود ان تجيبني عليه
    من خلال دراستنا لمقياس القانون الدستوري حيث أنه تعرضنا لمصادر القانون الدستوري و هو ان احد مصادر القانون الدستوري هو التشريع الذي تسنه السلطة التشريعية , فكيف يكون التشريع مصدر من مصادر القانون الدستوري و الدستور هو من خلق السلطات الثلاث من بينها السلطة التشريعية

    ردحذف