المسؤولية السياسية والجنائية للسلطة التنفيذية
في
النظام السياسي الجزائري
بقلم الدكتور عمار عباس
كلية الحقوق والعلوم السياسية
جامعة مصطفى اسطمبولي، معسكر، الجزائر
abbas.ammar@univ-mascara.dz
مقال منشور بمجلة القانون، المركز الجامعي غليزان، العدد الثاني، 2010.
مـقـدمـة
من بين أهم المبادئ
التي تقوم عليها الأنظمة البرلمانية والتي تحقق التوازن بين السلطة التنفيذية
والسلطة التشريعية هو مبدأ المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان[1]،
في مقابل حق حل هذا الأخير من طرف السلطة
التنفيذية تحقيقا لقاعدة توازن الرعب "l'équilibre de la terreur" بين السلطتين التشريعية والتنفيذية حسب تعبير
الفقيه الفرنسي "G.Vedel"، على اعتبار أنه"إذا تخلف هذا الركن لا يمكن
أن يوصف نظام الحكم بأنه نظام برلماني"[2]؛
وإلى جانب المسئولية السياسية يبقى أعضاء السلطة التنفيذية معرضين للمسائلة
الجنائية عن الجرائم والجنح التي يرتكبونها أثناء تأديتهم لوظائفهم.
إن أصل المسؤولية السياسية هو
المسؤولية الجنائية[3]،
حيث استطاع مجلس العموم في بريطانيا خلال القرن الرابع عشر"أن ينشئ لنفسه حقا
مؤداه اتهام رجال الملك-أي وزراءه ومستشاريه- إلا أن هذا الاتهام كان لابد أن ينصب
على إسناده جريمة للوزير، أي أنه كان اتهاما جنائيا وليس سياسيا"[4]،
ولو أن كلا من المسئولية الجنائية والمسئولية السياسية هما وجهان لعملة واحدة هي
مسئولية الوزراء أمام البرلمان[5].
ونظرا للتطور الذي
عرفته النصوص الدستورية الجزائرية منذ الاستقلال، سنحاول في هذا المقال التطرق إلى
مكانة كل من المسئولية السياسية (أولا) والمسئولية الجنائية (ثانيا)للسلطة
التنفيذية في النظام السياسي الجزائري، ومن خلال ذلك سنحاول تحديد الجهة التي يقع
عليها عبئ هذه المسئولية على اعتبار أن السلطة التنفيذية قد عرفت تطورا من حيث
تنظيمها من خلال تحولها من الأحادية إلى الثنائية بعد تقاسمها بين كل من رئيس الجمهورية والحكومة.
أولا: مكانة المسئولية السياسية في النصوص
الدستورية الجزائرية
عرفت
المسؤولية السياسية للحكومة في النظام السياسي الجزائري ثلاث مراحل بارزة، تمثلت
الأولى في تبني المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان من خلال النصوص
الدستورية الأولى التي عرفتها البلاد بعد الاستقلال ممثلة في كل من النظام الداخلي
للمجلس الوطني التأسيسي وكذا في دستور 1963[6]،
غير أنه تم التخلي عنها في ظل دستور 1976 حيث أصبح الوزراء مسئولين فقط أمام رئيس
الجمهورية، لتعود بعد ذلك بمقتضى التعديل الدستوري لسنة 1988 وتحتل مكانة بارزة في
دستوري 1989 و 1996.
1.
في دستوري
1963 و 1976
عرف المجلس
الوطني التأسيسي جدلا حول طبيعة علاقته بالحكومة، حيث كان أعضاء المجلس يرغبون في
جعل الحكومة مسئولة أمامهم مسؤولية مطلقة عندما اقترحوا ضرورة مصادقتهم على قائمة
أعضاءها، مع بقاءهم مسئولين سياسيا رفقة
رئيس الحكومة أمام المجلس الوطني التأسيسي،
وترتيبا على ذلك يمكن للمجلس أن يسحب ثقته من الحكومة بأكملها أو من أحد أو عدة
وزراء ويمكنه أيضا أن يقبل استقالة الحكومة أو أحد أو عدة وزراء[7].
غير أن هذا
الاقتراح لم يؤخذ بعين الاعتبار، الأمر الذي دفع المجلس إلى تبني مشروع لائحة تقدم
به النائب بشير بومعزة مفاده أن يقدم رئيس الحكومة وزراءه أمام المجلس الوطني
التأسيسي ويقترح برنامجه لإثرائه من طرف المجلس[8].
وقد حدد
النظام الداخلي للمجلس الوطني التأسيسي[9]،
الحالات التي يمكن أن تتقرر فيها المسؤولية السياسية للحكومة، حيث يمكن لرئيس
الحكومة أن يطرح مسؤولية حكومته بمناسبة التصويت على نص أو حول برنامج حكومته أو
حول بيان لسياستها العامة.
على هذا
المنوال فقد أكد دستور 1963 على المسؤولية السياسية للحكومة أمام المجلس الوطني،
عندما نص على أن رئيس الجمهورية باعتباره رئيس للحكومة في نفس الوقت، هو وحده
المسئول أمام المجلس الوطني[10].
كانت المسؤولية
السياسية للحكومة أمام المجلس الوطني تتجلى من خلال تمكين الدستور لهذا الأخير من إيداع
لائحة لسحب الثقة من رئيس الجمهورية [11]،
يوجب التصويت عليها استقالته والحل التلقائي للمجلس[12]،
وقد أدى الأخذ بالمسئولية السياسية على هذا النحو إلى توجيه انتقادات عديدة لواضعي
دستور 1963، كما اعتبر البعض ذلك خصوصية جزائرية[13].
إن تقرير
المسؤولية السياسية للحكومة في ظل دستور 1963 لم يكن ليشفع لرئيس الجمهورية أمام
معارضيه الذين اتهموه باحتكار السلطة والانفراد بها، وهو ما اعتبروه خروجا عن نهج
الثورة، الأمر الذي أدى إلى تنحيته من السلطة في 19 جوان 1965 أو ما سمي وقتها بالتصحيح الثوري.
لقد ترتب عن هذا التصحيح الثوري تركيزا أكثر للسلطة
في يد رئيس مجلس الثورة الذي كان يعتبر في نفس الوقت رئيسا للحكومة ووزيرا للدفاع،
في غياب أية مسؤولية للحكومة، إذا استثنينا الرقابة الممارسة عليها من طرف مجلس
الثورة، الذي كان بإمكانه إجراء تعديل كلي أو جزئي عليها عن طريق الأوامر
المجلسية، ومن ثم يبقى الوزراء مسئولون
فرديا أمام رئيس الحكومة وجماعيا أمام مجلس الثورة[14].
وقد أدت هذه
الممارسة بواضعي دستور 1976، إلى دسترة
هذا التركيز في السلطة مع تغييب أية مسؤولية للحكومة أمام البرلمان، حيث أصبح رئيس
الجمهورية يضطلع بقيادة الوظيفة التنفيذية[15]،
تمارس الحكومة الوظيفة التنفيذية بقيادته[16]،
وعلى اعتبار أنه المجسد لوحدة القيادة السياسية للحزب والدولة فلم يكن من المعقول
أن يكون مسئولا أمام البرلمان، مثله مثل نظرائه في النظم البرلمانية[17].
إن استبعاد المسئولية السياسية في دستور 1976
يعتبر متناقضا مع تبني حق حل المجلس الشعبي الوطني كما تقتضيه قاعدة توازن الرعب
بين السلطة التشريعية والتنفيذية، الأمر الذي يخلق عدم توازن صارخ في صالح السلطة
التنفيذية[18]،
كما أن هذا الاتجاه لا يتماشى مع الخطاب السياسي السائد آنذاك، والذي كان يولي
أهمية كبرى للرقابة ويعتبرها أداة من أدوات التنمية المنشودة[19].
كان لحوادث
أكتوبر 1988 دور كبير في الدفع بالسلطة السياسية القائمة آنذاك وفي إطار الإصلاحات
السياسية التي انتهجتها إلى تبني مبدأ المسؤولية السياسية للحكومة أمام المجلس
الشعبي الوطني، وقد ظهر ذلك من خلال توزيع السلطة التنفيذية على جهتين، فقد أصبح
بإمكان رئيس الجمهورية تعيين رئيس للحكومة[21]،
مكلف بإعداد برنامج ويسهر على تنسيقه وتنفيذه، لأجل ذلك يبقى مسئولا أمام المجلس
الشعبي الوطني[22]،
على اعتبار أنه لا يمكنه الشروع في تطبيق برنامجه إلا بعد موافقة هذا الأخير عليه،
ليس هذا فقط بل حتى في حالة حصوله على موافقة المجلس، فإنه يبقى ملزما بتقديم بيان
سنوي عن السياسة العامة لحكومته[23].
هذا الواقع
الذي مورس في ظل الأحادية الحزبية[24]،
كرسه دستورا 1989 و 1996 ولكن في إطار تبني التعددية الحزبية، على الرغم من أن
دستور 1989 لم يصادف العمل بأحكامه انتخاب برلمان تعددي، نظرا لتعليق المسار
الانتخابي قبل إجراء دوره الثاني، وما ترتب عنه من أزمة دستورية و سياسية، إلا أن
دستور 1996 شهد العمل به إجراء انتخابات تعددية شاركت فيها أحزاب المعارضة الأمر الذي سمح لها بدخول البرلمان بغرفتيه،
ولو أن الحكومة بقيت مسئولة فقط أمام المجلس الشعبي الوطني، في حين أن رقابة مجلس
الأمة لا تترتب عنها أية مسؤولية سياسية[25].
تتقرر
المسؤولية السياسية للحكومة أمام المجلس الشعبي الوطني في مناسبتين يقدم خلالهما
الوزير الأول استقالة حكومته لرئيس الجمهورية، الأولى عند رفض نواب المجلس الشعبي
الوطني المصادقة على مخطط عمل الحكومة[26]،
والثانية عقب تقديم البيان السنوي للسياسة العامة للحكومة، في حالة ما إذا صوت
النواب على ملتمس للرقابة بأغلبية الثلثين، كما قد تسقط الحكومة إذا لم يصوت
النواب على تجديد الثقة في الحكومة بناء على طلب من الوزير الأول، إلا إذا رغب
رئيس الجمهورية في رفض استقالة الحكومة ولجأ بالتالي إلى حل المجلس الشعبي الوطني[27].
ثانيا: المسئولية الجنائية للسلطة التنفيذية
تعتبر المسئولية
الجنائية سابقة في الظهور على المسئولية السياسية، فقد كان الوزراء في بريطانيا مسئولين مسؤولية جنائية عن الجرائم التي
يرتكبونها وفقا للقانون الجنائي، يترتب عليها الحكم عليهم بعقوبة جنائية تمسهم في شخصهم أو حريتهم أو مالهم كالسجن
والحبس والغرامة[28]،
غير أن محاكمتهم كان يتولاها البرلمان ولم يكن يسمح للمحاكم بمحاكمتهم "خوفا
من محاباتها تحت تأثير الملك، وينحصر نطاق المسؤولية في الوزير نفسه دون
الوزارة"[29].
إلا أن هذا النوع من المسئولية الذي تبناه
المؤسس الدستوري الجزائري على غرار كثير من الأنظمة السياسية[30]
قد أثار جدلا سياسيا وقانونيا وفلسفيا، ولو أنه يعتبر تجسيدا لمبدأ المساواة بين
المواطنين وترسيخا لدولة القانون[31].
من بين أهم
التجديدات التي جاء بها دستور 1996، تبني مبدأ ازدواجية القضاء، وذلك بالنص على
تأسيس هيئات قضائية إدارية تمثلت في كل من مجلس الدولة والمحاكم الإدارية[32]،
وبقيت المحاكم و المجالس القضائية والمحكمة العليا جهات قضائية عادية، وإلى جانب
هذا فقد نص الدستور على تأسيس محكمة عليا للدولة، تختص بمحاكمة كل من رئيس
الجمهورية الوزير الأول عن الأفعال التي يمكن وصفها بالخيانة العظمى، وعن الجنايات
والجنح التي يرتكبانها بمناسبة تأديتهما لمهامهما[33].
1.استبعاد
مسئولية أعضاء الحكومة
من خلال نصه على تأسيس محكمة عليا للدولة، يمكن
القول أن المؤسس الدستوري الجزائري قد استبعد محاكمة كل من رئيس الجمهورية والوزير
الأول سواء من طرف الجهات القضائية العادية أو البرلمان، وتبنى موقفا ثالثا وهو
تأسيس محكمة خاصة تختص بهذا النوع من القضايا[34]،
علما أن هناك ثلاث طرق يتم بمقتضاها
محاكمة أعضاء السلطة التنفيذية، اختلفت الأنظمة الدستورية في تبنيها، تتمثل في ما يلي:
أ. محاكمة أعضاء السلطة التنفيذية من طرف الجهات
القضائية العادية سواء كانت أعلى محكمة في الدولة أو محكمة دستورية، في حين يبقى
الاتهام من اختصاص البرلمان، وقد أخذت بهذا الاتجاه كل من ألمانيا واليابان
وبلجيكا وأسبانيا والدانمرك و إيطاليا؛
ب. تولي
البرلمان لتوجيه الاتهام الجنائي لأعضاء السلطة التنفيذية ومحاكمتهم، حيث عادة ما
توجه غرفة النواب الاتهام وتتولى الغرفة الأخرى المحاكمة، وأحسن مثال على ذلك ما
أخذ به دستور الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يوجه مجلس النواب الاتهام للرئيس
وكبار الموظفين المدنيين ويتولى مجلس
الشيوخ محكمتهم[35]؛
ج. إنشاء محكمة خاصة
تختص بمحاكمة أعضاء السلطة التنفيذية.
ويلاحظ من
صياغة المادة 158 من دستور 1996 التي أقرت مبدأ المسئولية الجنائية لرئيس الجمهورية
والوزير الأول، بأنها قد استبعدت مسئولية أعضاء الحكومة، على الرغم من أنهم قد
يرتكبوا جنحا أو جرائم بمناسبة تأديتهم لوظائفهم، كجرائم الرشوة والتلاعب بأموال
الدولة واستغلال السلطة والنفوذ، على العكس مما ذهب إليه الدستور الفرنسي لسنة 1958،
والذي نص على مسئولية كل من رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة، دون التمييز بينهم
وبين رئيس الحكومة، حيث يكون أعضاء الحكومة مسئولين جزائيا عن الأفعال التي
يرتكبونها أثناء ممارسة وظائفهم والتي توصف بالجرائم والجنح أثناء ارتكابها على
تتم محاكمتهم من طرف محكمة عدل الجمهورية[36].
ولكن على الرغم من استبعاد الدستور الجزائري
لطرح المسئولية الجنائية لأعضاء الحكومة أمام المحكمة العليا للدولة، إلا أنهم رغم
ذلك يبقوا مسئولين جنائيا أمام الجهات القضائية العادية على هذا النوع من الجرائم.
رغم أن تبني
المسئولية الجنائية للسلطة التنفيذية اعتبر من بين التجديدات البارزة التي أقرها
دستور 1996، إلا أن الغريب في الأمر هو
تأخر صدور القانون العضوي المنظم للمحكمة العليا للدولة، على اعتبار أن الدستور نص
صراحة على أن تشكيل هذه المحكمة وسيرها والإجراءات المطبقة أمامها تحدد بقانون
عضوي[37]،
وهو الأمر الذي لم يحدث في التجربة الدستورية الفرنسية حيث صدر الأمر المتضمن
القانون العضوي للمحكمة العليا المختصة بمحاكمة كل من رئيس الجمهورية وأعضاء
الحكومة، بعد مرور ثلاثة أشهر فقط على وضع دستور 1958[38]،
في حين لم يصدر هذا القانون في الجزائر على الرغم من النص عليها في الدستور منذ 1996.
وعلى خلاف
الدستور الجزائري الذي اكتفى بالنص على تأسيس محكمة عليا للدولة، فإن الدستور
الفرنسي تضمن بعض الإجراءات المتبعة سواء أمام المحكمة العليا المختصة بمحاكمة
رئيس الجمهورية أو محكمة العدل للجمهورية المختصة بمحاكمة أعضاء الحكومة[39].
2. التداخل بين المسئولية الجنائية والسياسية
إذا كان
المؤسس الدستوري الجزائري قد فصل في تحديد الجهة القضائية المختصة بالنظر في
الجرائم و الجنح التي يرتكبها كل من رئيس الجمهورية والوزير الأول بمناسبة
تأديتهما لوظائفها، إلا أن الإشكال الذي يبقى مطروحا يتعلق بمسألة تحديد مفهوم
الخيانة العظمى[40]،
وكيفية الفصل بينها وبين جريمة الخيانة المنصوص عليها في قانون العقوبات.
تطبيقا لمبدأ الشرعية الذي يقضي بأنه لا
عقوبة ولا جريمة إلا بنص، فإنه يصعب
متابعة كل من رئيس الجمهورية والوزير الأول طالما أن عناصر جريمة الخيانة العظمى لم تحدد بدقة، لأن
مبدأ الشرعية يطبق على المحكمة العليا للدولة كما يطبق على بقية الجهات القضائية،
"فهي لا تستطيع تجريم إلا الأفعال المنصوص عليها في القانون الجنائي، وفي نفس
الوقت تلتزم بتطبيق العقوبات المقررة في ذلك القانون لتلك الجرائم"[41]،
كما أن الخيانة العظمى ليست متعلقة دائما بالتعاون مع جهات أجنبية ضد مصالح الدولة
وإنما قد تعني التخلي عن عدم احترام الدستور، أو حتى اللجوء إلى تطبيق أحكامه
بطريقة تعسفية أو لمصالح شخصية[42].
وعلى الرغم من ذلك يمكن الاستفادة من
التجربة الفرنسية في هذا المجال، خاصة تفادي الجدل الذي ثار بخصوص تحديد الحد
الفاصل بين المسئولية الجنائية والمسئولية السياسية، حيث أفرزت الممارسة ولو من
خلال ثلاث قضايا فقط[43]،
تخوفا من أن تتحول الرقابة السياسية إلى رقابة قضائية، الأمر الذي قد يدفع
بالأغلبية البرلمانية إلى توريط وزراء الأقلية أمام المحكمة العليا للعدل، وتقوم
في مقابل ذلك بحماية المنتمين إليها على الرغم من أنهم قد يرتكبوا جرائم وجنح
بمناسبة تأديتهم لوظائفهم، نظرا لأن أعضاء البرلمان"يغلب عليهم الطابع
السياسي، وإن كان تكوين أعضاء لجنة التحقيق من عنصر قضائي خالص يخفف من حدة التحكم
والتحيز، الأمر الذي يجعل من المحكمة، في ظل غياب رقابة محكمة النقض أمرا
خادعا"[44].
كل هذا أدى إلى البحث عن تعديل لأحكام الدستور
يجعل المحكمة تتلاءم أكثر مع الوضع دون أن تمس بمبدأ الفصل بين السلطات، وهو الأمر
الذي حدث من خلال التعديل الدستوري الذي وافق عليه البرلمان الفرنسي في 19-07-1993،
بعد جدل واسع بين الحكومة وغرفتي البرلمان، والذي بمقتضاه لم تعد محكمة العدل
للجمهورية، تلتمس مباشرة من طرف الأشخاص أو النواب، وإنما يجب المرور على اللجنة
المختصة بتلقي هذا النوع من الدعاوى[45]،
ومن ثم يلاحظ كيف أن المؤسس الدستوري الفرنسي"تشدد في شروط هذه المسئولية
بدعوى حماية الوزراء من كثرة الاتهامات الغير مبنية على أسباب حقيقية"[46]،
كما تم الفصل بمقتضى هذا التعديل الدستوري بين المسئولية الجنائية لرئيس الجمهورية
وأعضاء الحكومة[47].
وعلى الرغم من ذلك
فقد وجهت انتقادات إلى هذا التعديل الدستوري الذي يعطي للجنة التحقيق سلطة تقرير بأن
لا وجه للمتابعة، إذا ما تبين لها أن الأفعال المنسوبة إلى الوزير لا تستدعي
محاكمته، على اعتبار أن قرارها لا يؤدي"إلى تبرئة ساحة الوزير أمام الرأي
العام لأن مصلحة الوزير المحال للمحاكمة بقرار علني من المجلسين، أن تكون تبرئته
بحكم من المحكمة العليا أجدر من صدور قرار لجنة التحقيق بإجراء شبه سري، ولذلك كان
الإجراء المتبع في ظل دستور 1946 أفضل من دستور 1958، إذ كانت لجنة التحقيق تتخذ
قرارها بأن لا وجه للمتابعة عقب مناقشة علنية يشترك فيها كل من النيابة العامة و
الدفاع"[48].
خاتمة
لقد دفع التحول الذي عرفه النظام السياسي
الجزائري منذ 1988 بالمؤسس الدستوري إلى تبني مبدأ المسئولية السياسية للحكومة
أمام البرلمان ليجسد بذلك الرقابة البرلمانية الحقيقية على الجهاز التنفيذي، على
اعتبار أن أهم نتائج هذه المسئولية تتمثل في دفع الحكومة إلى التخلي عن الحكم، عكس
وسائل الرقابة الأخرى والتي لا يخرج هدفها عن الحصول على المعلومات من السلطة
التنفيذية كالأسئلة والاستجواب ولجان التحقيق.
واستكمالا لهذه المسئولية تبنى المؤسس الدستوري
الجزائري بمقتضى التعديل الدستوري لسنة 1996 المسئولية الجنائية لكل من رئيس
الجمهورية والوزير الأول، وعلى خلاف المسئولية السياسية التي تحددت إجراءاتها
ونتائجها سواء من خلال الدستور أو النصوص المنظمة لغرفتي البرلمان وعلاقاتهما مع
الحكومة، فإن إجراءات تقرير المسئولية
الجنائية سواء تعلق الأمر بتنظيم المحكمة العليا للدولة أو تحريك الدعوى والنتائج
المترتبة عنها لم تتضح بعد، وفي انتظار ذلك يبقى على أعضاء البرلمان تفعيل وسائل
الرقابة البرلمانية المتاحة لهم من طرف الدستور[49].
[1] -"Le procédé extraordinaire de
contrôle est la mise en jeu de la responsabilité gouvernementale. La
possibilité de cette mise en jeu est un mécanisme essentiel du régime
parlementaire, que son initiative soit gouvernementale(question de confiance)
ou parlementaire (motion de censure), Claude Journes, l’Etat britannique,
Publi-sud, 1985, p. 227.
[2]-بكر أحمد الشافعي، العلاقة بين السلطات في
النظام البرلماني والنظام الإسلامي، رسالة دكتوراه، كلية الشريعة والقانون، جامعة
الأزهر، 1984،
ص 387.
-cf, Z.Mdhaffar, le pouvoir législatif au Maghreb, bibliothèque de droit
de sciences politiques et économiques, 1987., p.
425.
[3]-cf,Yelles. C.B, la rationalisation du contrôle parlementaire en
Algérie (l'apport du conseil constitutionnel ), thèse, Oran, 1994, p. 379.
[5] -"La responsabilité criminel
n'est, sous un nom distinct et sous une forme spéciale, qu’une manifestation de
la responsabilité générale des ministres devant le parlement: elle n'est autre
que leur responsabilité parlementaire elle-même, produisant, selon les cas, des
effets, tantôt politiques, tantôt pénaux. quelle que soit la gravité du compte
demandé aux ministres, c'est toujours le même principe qui se trouve en jeu: à
savoir que le parlement est maître d'apprécier et de juger l'activité
ministérielle; seules, la procédure et les sanctions varient", R. Carré de Malberg, contribution à la
théorie générale de l'Etat, Paris, Sirey, 1920 (rééd. Presses du CNRS,
1962),t.1, pp. 791-794.
[6]-حول تطور المسئولية
السياسية في النظام السياسي الجزائري، انظر، يلس شاوش بشير، موانع مسئولية الحكومة
أمام مجلس النواب، المجلة الجزائرية للعلوم القانونية والسياسية والاقتصادية،
رقم1، 1991، ص 360-362.
[7]- المادة 2 من مشروع لائحة المجلس الوطني
التأسيسي المتعلقة بسير الحكومة، الجريدة الرسمية رقم 1 المؤرخة في 27 سبتمبر
1962، ص 10.
[8] المادة 1 من لائحة المجلس الوطني التأسيسي التي
تحدد كيفيات تعيين الحكومة ، الجريدة الرسمية رقم 2 المؤرخة في 29-09-1962، ص 19.
[9]- صادق عليه المجلس الوطني التأسيسي في
20-11-1962، بالأغلبية مقابل 13 نائبا صوتوا ضد النص وامتنع عن التصويت 10 نواب،
الجريدة الرسمية رقم 9 المؤرخة في 11-03-1963.
[13] -cf, Bedjaoui. M, L'évolution constitutionnelle de l'Algérie
depuis l'indépendance: la constitution de 1963 et la"petite constitution
de 1965", in Corpus constitutionnel, Tome 1, 1968, p.
178; Z. Mdhaffar, le pouvoir législative…, op. cit, p. 437. Borella. F, la constitution algérienne, un régime
constitutionnelle du gouvernement par le parti, R.A, N° 1, 1964, pp. 72-75;
- إن الحل التلقائي للمجلس الوطني في
حالة إدانته لرئيس الجمهورية حالة من المستحيل وقوعها، نظرا لتردد النواب في
الإقدام على ذلك، خوفا من وضع حد لعهدتهم النيابية وما تجلبه من امتيازات، ويرى
السيد بوقفة أنه وبالرجوع إلى مناقشة مشروع الدستور يلاحظ بأن جل النواب المتدخلين
بأنه في حالة وقوع خلاف بين رئيس الجمهورية والحزب، وبعد نفاذ طرق التسوية، وعلى اعتبار
أن النواب والحكومة تابعين للحزب، يأمر هذا الأخير النواب بتحريك مسئولية الرئيس،
وبالتالي أرجعت قيادة الحزب مسألة الحل التلقائي للمجلس إلى عدم كشف للرأي العام
بأن نواب الحزب الواحد مختلفون حول أمر جوهري، لهذا لا يمكن أن يكون داخل الحزب
نوابا يصوتون لصالح الحزب وآخرون ضده، ومن ثم اعتبر الحل التلقائي للمجلس إخراج
للحزب من أزمة سياسية داخلية تمكنه من أن يتحكم في الوضع السياسي، عبد الله بوقفة،
العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في الدستور الجزائري لسنة 1963،
جامعة الجزائر، 1996، ص 192 هامش 334.
- انظر الجريدة الرسمية
لمداولات المجلس الوطني رقم 66 و 67 لسنة 1963.
[17] -"son irresponsabilité rappelle
l'inviolabilité des rois et apparaît telle une survivance de constitutions
parlementaires", Brahimi. M, nouveaux choix choix constitutionnels et
nouveaux besoins politiques, R.A.S.J.E.P, N°4, 1991, p. 750.
_[19] انظر المادتين 183 و 184 من
دستور 1976، حيث نصت هذه الأخيرة على أن هدف الرقابة هو"ضمان تسيير حسن
لأجهزة الدولة في نطاق احترام الميثاق الوطني والدستور وقوانين البلاد. مهمة
المراقبة هي التحري في الظروف التي يتم فيها استخدام وتسيير البشرية والمادية من طرف الأجهزة الإدارية والاقتصادية للدولة،
وكذا تدارك النقص والتقصير والانحراف، والتمكين من قمع الاختلاس وكل الأعمال
الإجرامية ضد الثروة الوطنية، وبالتالي ضمان تسيير البلاد في إطار النظام والوضوح
والمنطق".
[20] -يرى السيد محمد براهيمي
بأن تبني المسئولية السياسية للحكومة أمام المجلس الشعبي الوطني إضافة إلى
ازدواجية السلطة التنفيذية، يجعل من النظام السياسي الجزائري أقرب إلى النظم
البرلمانية. -cf, Brahimi. M, nouveaux choix…,
op. cit, p. 751.
-cf, Brahimi. M, nouveaux choix…, op. cit, p.
751.
[21]- المادة 111 الفقرة الرابعة من التعديل الدستوري
الذي جرى في 03-11-1988، الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية، رقم 45 المؤرخة في
05-11-88.
[24]- على اعتبار أن حزب جبهة
التحرير الوطني كان هو الحزب الوحيد المتواجد على الساحة السياسية بصفة شرعية
آنذاك والمسيطر على المجلس الشعبي الوطني.
[25]-إن انعدام المسئولية
السياسية للحكومة أمام مجلس الأمة يزيد من إضعاف هذه المؤسسة الدستورية الجديدة في
النظام السياسي الجزائري، فعلى الرغم من امتلاكه لوسائل الرقابة التي لا تفضي إلى
تقرير المسئولية السياسية للحكومة، الأمر الذي أدى إلى التساؤل حول دور هذه
المؤسسة الدستورية"فإلى جانب أنه محروم من كل ممارسة فعلية من خلال الوظيفة
التشريعية ما عدى عرقلة ذلك، نجده كذلك محروم من رقابة فعلية على برنامج الحكومة
وعلى سياستها"، شنوفي فاتح، مكانة مجلس الأمة ...، مرجع سبق ذكره، ص 98.
[27]-علما أن الدستور يخول رئيس
الجمهورية حل المجلس الشعبي الوطني قبل قبول استقالة الحكومة، انظر المادة 84 من دستور
1996.
[28]- محمد قدري حسن، رئيس مجلس الوزراء في النظم
البرلمانية المعاصرة، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، بدون تاريخ ، ص
380؛ بكر أحمد راغب الشافعي، العلاقة بين السلطات في
النظام البرلماني والنظام الإسلامي،رسالة دكتوراه، كلية الشريعة والقانون، جامعة
الأزهر، 1984.، ص 385.
[30] -cf, Christian Bigaut, op. cit, p.
139 et s.
[31] -"Dans un Etat de droit, dans
une société libérale et qui repose sur le principe d’égalité de tous les
hommes, la bonne administration de la justice suppose l'application d'une loi
égale pour tous, par les même
juridictions quelles que soient les personnes impliquées, sans qu'il y ait lieu
de faire aucune différence fondée sur la personnalité de l'auteur du crime ou
du crime ou du délit, et en écartant toute application d’une procédure ou d’un
droit spécial à des crimes ou délits considérés comme particuliers en raison de
leur auteur.", Dimitri Georges Lavroff, droit constitutionnel de la Ve République , 2e
édition, Dalloz, 1997, p. 576.
[32]-نصت المادة 152 من دستور 1996 على أنه"تمثل
المحكمة العليا الهيئة المقومة لأعمال المجالس القضائية والمحاكم، يؤسس مجلس دولة
كهيئة مقومة لأعمال الجهات القضائية الإدارية، تضمن المحكمة العليا ومجلس الدولة
توحيد الاجتهاد القضائي في جميع أنحاء البلاد ويسهران على احترام القانون، تؤسس
محكمة تنازع تتولى الفصل في حالات تنازع الاختصاص بين المحكمة العليا ومجلس
الدولة"
-انظر، القانون العضوي رقم 98-01 المؤرخ في
30-05-1998، المتعلق باختصاصات مجلس الدولة، -القانون العضوي رقم 98-03 المؤرخ في
30-06-1998، المتعلق باختصاصات محكمة التنازع وتنظيمها وعملها، -القانون رقم 98-02
المؤرخ في 30-05-1998، المتعلق بالمحاكم الإدارية.
[34] -cf, Christian Bigaut, la
responsabilité pénale des hommes politiques, Paris, LGDJ, 1996, p. 139 et s.
[35]-جاء في القسم الرابع من
المادة الثانية من دستور الولايات المتحدة الأمريكية لسنة 1787 على أنه"يعزل
الرئيس ونائب الرئيس وجميع موظفي الولايات المتحدة الرسميين المدنيين من مناصبهم
إذا وجه لهم اتهام نيابي بالخيانة أو الرشوة أو أية جرائم أو جنح خطيرة أخرى وأدينوا بمثل هذه
التهم".
[38]-cf, L’ordonnance N° 59-1
du 2 janvier 1959 portant loi organique sur la Haute Cour de justice.
[40] -"La notion de la
haute trahison présidentiel est maladroite et inappropriée. Peut être faut'il parler à la limite de violation grave
de la constitution par un homme qui incarne l'unité de la nation, l'Etat à
l'étranger et qui est le garant de la constitution, dans tous les cas la
responsabilité du président et politique, Elle se résout en termes de démission
de plein droit.", M. Hamrouche, op. cit, p. 14.
[41]-السيد رجب السيد محمد، المسئولية الوزارية في النظم السياسية المعاصرة مقارنة
بالنظام الإسلامي، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1986 ، ص 120.
[42]-"Une
violation de la constitution de la constitution pourrait-elle, juridiquement,
être qualifiée de haute trahison, même si elle n'avait aucun rapport avec les
relations internationales.", Jean-Pierre Rougeaux, la Haute Cour de justice
sous la 5eme République, RDP, 1978, pp. 1029-1031.
-
[43] -التمست المحكمة العليا للعدالة في فرنسا في
ثلاث مناسبات:
-قضية السيد Michel Poniatowski الذي
كان وزيرا للداخلية واتهم من طرف أعضاء البرلمان بسبب ارتكابه لأخطاء جسيمة عند
ممارسته لوظائفه.
-قضية Carrefour du développement
والتي ظهرت سنة 1986 عندما اتهم وزير
التعاون في حكومة شيراك نظيره السابق بتحويل الأموال العمومية لصالحه أو
باستعمالها لمصالح سياسية شخصية أو لفائدة حزبه.
-قضية الدم الملوث (L’affaire
dite du sang contaminé) ، حيث أنه في 07-10-1992، اتهم
النواب مجموعة من الوزراء بالجرائم و
الجنح التي ارتكبوها بمناسبة تأديتهم لوظائفهم، وذلك بإهمالهم اتخاذ التدابير
اللازمة لحقن الدم الملوث بفيروس السيدا.
-"Toute personne qui se prétend
lésé par un crime ou un délit commis par un membre du gouvernement dans
l'exercice de ses fonctions peut porter plainte auprès d'une commission des
requêtes. Cette commission ordonne soit le classement de la procédure, soit la
transmission au procureur général près la Cour de cassation aux fins de saisine de la Cour de justice de la République. Le
procureur général près la Cour
de cassation peut aussi saisir d’office la Cour de justice de la République sur avis
conforme de la commission des requêtes".
[47] -هناك جهتين قضائيتين تختصان بمحاكمة أعضاء
السلطة التنفيذية، المحكمة العليا للعدالة(la Haute cour de justice)،
مختصة بمحاكمة رئيس الجمهورية، ومحكمة عدل الجمهورية(la Cour de justice de la République )،
مختصة بمحاكمة أعضاء الحكومة، انظر المادتين 67، 68 من دستور
1958.
ARTICLE 68. Le Président de la République ne peut être
destitué qu'en cas de manquement à ses devoirs manifestement incompatible avec
l'exercice de son mandat. La destitution est prononcée par le Parlement
constitué en Haute Cour.
ARTICLE 68-1. Les membres du Gouvernement sont pénalement
responsables des actes accomplis dans l'exercice de leurs fonctions et
qualifiés crimes ou délits au moment où ils ont été commis.
Ils sont jugés parla Cour
de justice de la République.
Ils sont jugés par
[49]- على الرغم من تبني
المسئولية السياسية للحكومة في معظم النصوص الدستورية الجزائرية باستثناء دستور
1976، فإنه لم يحدث وأن أثيرت مسئولية أي عضو من الحكومة طيلة المدة التي طبقت
فيها النصوص القانونية السالفة الذكر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق