السبت، 31 ديسمبر 2011

مبدأ سمو الدستور

إن مبدأ سمو الدستور يراد منه وجود الدستور على قمة هرم النصوص القانونية في الدولة،  مما يقتضي احترام النصوص التشريعية الأدنى لأحكام الدستور سواء من الناحية الشكلية أو الموضوعية. فمن الناحية الشكلية يجب أن يصدر التشريع وفقا للإجراءات والشروط المقررة دستوريا سواء من حيث السلطة المختصة باقتراحه أو المبادرة به وإقراره وتوقيعه وإصداره، أو من حيث النصاب الواجب توافره للمصادقة عليه،  أما من الناحية الموضوعية فيجب ان يوافق التشريع أحكام الدستور نصا وروحا.
 يثار مبدأ سمو الدستور فقط في ظل الأنظمة ذات الدساتير الجامدة، أما تلك التي تأخذ بالدساتير المرنة فلا تثار فيها هذه المسألة على اعتبار أن الدستور في هذه الأنظمة يتساوى من حيث التدرج مع التشريعات العادية، فنجد أحكامه تعدل بنفس الكيفية التي تعدل بها التشريعات العادية سواء من حيث الجهة المختصة أو من حيث الإجراءات المتبعة.
غير أنه رغم الإقرار للدستور بالسمو على بقية القواعد القانونية إلا أن ذلك يبقى مبدأ نظريا إذا لم تتوافر الآلية  الناجعة لتجسيد هذا السمو واحترامه، خاصة إذا عرفنا أن القوانين التي تصدر مخالفة للدستور تعتبر باطلة ولا يعتد بها، وتتجلى هذه الآلية في الرقابة على دستورية القوانين التي تقوم بها الجهة المخولة بذلك، سواء كانت جهة قضائية أو سياسية.

العلاقة بين السلطات في الأنظمة السياسية المعاصرة وفي النظام السياسي الجزائري / مقدمة كتاب الأستاذ الدكتور عمار عباس، دار الخلدونية 2010، الجزائر.

مـــقــــدمـة


يتناول هذا الكتاب دراسة العلاقة بين السلطات في الأنظمة السياسية المعاصرة؛ فإذا كانت الأنظمة السياسية متنوعة نظرا لعدم التجانس الذي تعرفه الدول الحديثة نتيجة لتباين  الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في كل دولة، الأمر الذي يؤثر بالضرورة على  تحديد طبيعة النظام السياسي المنتهج في كل دولة؛ فإن تحديد طبيعة العلاقة السائدة بين السلطات في كل دولة من شأنه أن يساعد في تحديد معالم نظامها السياسي.
إن الحديث عن العلاقة بين السلطات في نظام سياسي ما يرتكز أساسا على العلاقة القائمة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، في حين تتجاهل الدراسات في معظم الأحيان  السلطة القضائية، بالنظر إلى أنها تكون في غالب الأحيان في منأى عن التجاذبات القائمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، من جهة لأنه يفترض فيها الاستقلالية ولو نظريا على الأقل، ومن جهة أخرى لأن نشاط السلطتين التنفيذية والتشريعية يتسم بالطابع السياسي ومن ثم تتعاونان وتؤثران في بعضهما البعض، ولكن هذا لا ينفي تعرض السلطة القضائية لتأثير السلطتين التنفيذية والتشريعية، بل أكثر من ذلك قد يكون لها هي الأخرى تأثير كبير عليهما.
إن الحديث عن العلاقة بين السلطات يقود حتما إلى التطرق إلى مبدأ الفصل بين السلطات، هذا المبدأ الذي وجد له مكانة بارزة في الأنظمة السياسية المعاصرة، نظرا لأنه أصبح معيارا ودليلا في نفس الوقت على تبني هذه النظم للنهج الديمقراطي، وتأكيدا منها في نفس الوقت على كفالة حقوق وحريات المواطنين.
كان مبدأ الفصل بين السلطات في البداية مجرد أفكار ساقها كثير من الفلاسفة والمفكرون في كتاباتهم، اعتقادا منهم أن سبب التسلط والاستبداد والتعسف هو تركيز السلطة واحتكارها من طرف جهة واحدة، حتى ولو كانت يد الشعب نفسه، ومن ثم لاحظوا بأن لا سبيل لصيانة الحرية وإقامة العدل والمساواة وتحقيق الشرعية، إلا بالفصل بين وظائف الدولة الأساسية وهي التشريع والقضاء وتنفيذ القوانين، وذلك بوضعها في أيدي متفرقة، يتحقق معها خضوع كل سلطة لرقابة سلطة أخرى.
غير أن تبني هذا المبدأ من طرف الدساتير الحديثة، وتطبيقه في أنظمة سياسية عديدة، ترتبت عنه تفسيرات متباينة؛ فمن الأنظمة من أخذت بالفصل المطلق بين السلطات، أين نجد فصلا وظيفيا وعضويا بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، ومنها من أخذت بالفصل المرن بين السلطات، حيث نجد تعاونا وظيفيا وتداخلا عضويا بين السلطتين التنفيذية والتشريعية على الخصوص.
وبناء على هذا التباين في تطبيقات مبدأ الفصل بين السلطات، تعددت أشكال الأنظمة السياسية؛ وسمح ذلك في نفس الوقت ببروز نماذج أساسية للأنظمة السياسية المعاصرة.
فالأنظمة التي تأخذ بالفصل المرن، تكون أقرب إلى النظام البرلماني الذي يعتبر النظام السياسي البريطاني نموذجه الرئيسي، هذا الأخير الذي لم ترسى دعائمه إلا بعد تطور طويل عرفه المجتمع البريطاني ميزه صراع مستمر بين الملوك والبرلمانات المتعاقبة، انتهى بحصول البرلمان على السيادة التشريعية، مما أفضى إلى بروز الملكية الدستورية،التي أصبح فيها الملك يسود ولا يحكم؛ و على هذا النحو كان النظام السياسي البريطاني مصدر إلهام لأغلب الأنظمة السياسية للدول الأوربية إضافة، إلى كثير من المستعمرات البريطانية القديمة.
        وفي مقابل ذلك كان للنظام السياسي الذي أرساه الآباء المؤسسون للدولة الفدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية بمقتضى دستور 1787، تأثير كبير على الدول التي رغبت في إقامة نظام سياسي يعطي الأولوية للفصل المتشدد بين السلطات، ويجعل من رئيس الدولة الشخصية المحورية على مستوى السلطة التنفيذية، مستندا في ذلك على طريقة انتخابه، التي تكون عادة عن طريق الاقتراع المباشر والسري، على الرغم من انفراد الرئيس في الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة انتخاب خاصة، وهذا ما يجعل من رئيس الدولة  حائزا لشرعية انتخابية لا يمكن أن تنافسها شرعية أخرى، تخوله ممارسة صلاحيات واسعة، حتى وصف بالملك الجمهوري.
        وبين هذين النموذجين الأساسيين للأنظمة السياسية المعاصرة، يوجد نموذج آخر أخذ موقعا وسطا بينهما، حيث استنبط خصائص النظامين سالفي الذكر، يدعى بالنظام المختلط أو الشبه الرئاسي، حيث نجد فيه سلطة تنفيذية مزدوجة مكونة من حكومة يرأسها وزير أول، مسئولة سياسيا أمام البرلمان كما هو الشأن في النظام البرلماني؛ وإلى جانبه رئيس للدولة منتخب، يتمتع بسلطات تشبه سلطات الرئيس في النظام الرئاسي؛ ويعتبر النظام السياسي الفرنسي للجمهورية الخامسة، المنبثق عن دستور 1958 نموذجه الأساسي.
        غير أن ارتكاز الأنظمة السياسية المعاصرة على مبدأ الفصل بين السلطات لا يمكن أن يحجب عنا حقيقة مفادها وجود أنظمة أخرى فضلت الأخذ بمبدأ الدمج بين السلطات الثلاث، كما هو الحال في الأنظمة التي تبنت ما يعرف بنظام حكومة الجمعية، على شاكلة النظام السياسي السويسري، أين نجد كلا من السلطة التنفيذية والسلطة القضائية منبثقتان من السلطة التشريعية الممثلة في الجمعية الفدرالية.
        إن دراستنا للعلاقة بين السلطات في الأنظمة السياسية المعاصرة، تقودنا حتما إلى التساؤل عن طبيعة العلاقة القائمة بين السلطات في النظام السياسي الجزائري، خاصة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
        لقد عرف النظام السياسي الجزائري تطورا بارزا على مستوى العلاقة بين السلطات، انطلاقا من أول دستور عرفته البلاد سنة 1963 مرورا بدستوري سنتي 1976 و 1989، وصولا إلى دستور 1996، هذا الأخير الذي أكد على مبدأ الفصل بين السلطات الذي كرسه دستور 1989، بعد أن كان مغيبا في دستوري 1963 و 1976.
        وسنحاول في هذا الإطار التركيز في دراستنا على العلاقة القائمة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في دستور 1996، وفق ما أقرته الأحكام الدستورية ورسخته الممارسة العملية، خاصة في ظل تبني التعددية الحزبية التي ترتب عنها تنظيم انتخابات تعددية سواء الرئاسية منها أو التشريعية.
وإذا كانت السلطة التشريعية حافظت على استقرارها بعد الأخذ بالثنائية البرلمانية بعد النص على إنشاء مجلس الأمة في دستور 1996، فإن السلطة التنفيذية عرفت إعادة تنظيم لها من الداخل، وذلك بمقتضى التعديل الدستوري لسنة 2008، وذلك عبر التخفيف من حدة الازدواجية على رأس السلطة التنفيذية، من خلال إلغاء منصب رئيس الحكومة المستحدث سنة 1988، واستبداله بمنصب للوزير الأول تتلخص مهمته في تنسيق عمل الحكومة وتنفيذ برنامج رئيس الجمهورية، بعدما كان هذا الموضوع يكتنفه الكثير من الغموض، خاصة في ما يتعلق بأي البرنامجين أولى بالتطبيق، برنامج رئيس الجمهورية الذي انتخب على أساسه، أم برنامج رئيس الحكومة المنبثق عن الأغلبية البرلمانية.
        لقد سمح التعديل الدستوري لسنة 2008، في جانبه المتعلق بإعادة تنظيم السلطة التنفيذية، بالتأكيد على المكانة المرموقة لرئيس الجمهورية في النظام السياسي الجزائري، مما سيؤدي حتما إلى توضيح معالم النظام السياسي الجزائري.
ولمعالجة كل النقاط المذكورة أعلاه، قمنا بتقسيم هذا الكتاب إلى بابين، تناولنا في الباب الأول العلاقة بين السلطات في الأنظمة السياسية المعاصرة، حيث خصصنا الفصل الأول منه لمبدأ الفصل بين السلطات، في حين تطرقنا في الفصل الثاني منه إلى طبيعة العلاقة بين السلطات في الأنظمة السياسية المعاصرة، أما في الباب الثاني فقد تعرضنا لدراسة العلاقة بين السلطات في النظام السياسي الجزائري، حيث خصصنا الفصل الأول لتنظيم السلطتين التنفيذية والتشريعية في دستور 1996، بينما تناولنا في الفصل الثاني أبرز مجالات التعاون والتأثير المتبادل بينهما.
وتعميما للفائدة أرفقنا هذا الكتاب بملاحق تتضمن دساتير الجزائر وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، مع مختلف التعديلات التي أدخلت عليها.
        ولعل أهمية هذا الكتاب تكمن في رأينا، في كونه  مرجعا إضافيا لطلبة كليات الحقوق، على أساس أن الأنظمة السياسية المعاصرة والنظام السياسي الجزائري يشكلان محورين رئيسيين في برنامج مقياس القانون الدستوري والنظم السياسية المقرر لطلبة السنة الأولى حقوق، مع أملنا في الأخير أن يكون ذلك مساهمة متواضعة منا، في إثراء المكتبة الجامعية بمرجع جزائري جديد يضاف إلى المراجع المتوفرة في مادة القانون الدستوري والنظم السياسية.

الخميس، 8 ديسمبر 2011

تعريف الدستور/ دروس في القانون الدستوري


تعريف الدستور/ دروس في القانون الدستوري
تعريف الدستور
تباينت تعاريف الفقهاء لمصطلح الدستور، بنفس درجة اختلافهم حول تعريف القانون الدستوري، وذلك نظرا لاختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى معنى الدستور؛ وتبعا لذلك تعددت أنواع الدساتير.
من الناحية اللغوية تعتبر كلمة دستور كلمة دخيلة على اللغة العربية، على اعتبار أنها كلمة فارسية، أما من الناحية الاصطلاحية فتعني القانون الأساسي.

أ.من خلال المعيار الشكلي
يعرف الدستور من خلال المعيار الشكلي على أنه مجموعة القواعد القانونية المحتواة في وثيقة أو عدة وثائق رسمية، تتبع في إعدادها وتعديلها إجراءات تختلف عن تلك المتبعة لإعداد وتعديل  القواعد القانونية العادية.
فإذا كانت القواعد القانونية العادية تخضع لإجراءات معروفة سواء من حيث المبادرة والاقتراح أو من حيث المصادقة، حيث عادة ما تكون المبادرة والاقتراح من قبل السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وتتبع لمناقشتها والمصادقة عليها إجراءات تحددها الدساتير والأنظمة الداخلية للبرلمانات، فإن الأمر يختلف إذا تعلق الأمر بالقواعد القانونية الدستورية بمفهومها الشكلي؛ حيث تحدد الدساتير في جانب منها إجراءات مختلفة وخاصة تتبع عند وضعها أو تعديلها، سواء من حيث المبادرة بالتعديل الدستوري، أو المصادقة عليه.
يظهر من خلال التعريف الشكلي للدستور، حصر مفهومه في القواعد القانونية المحتواة في الوثيقة الرسمية المكتوبة، واستبعاد بقية القواعد القانونية الموجودة خارجها حتى ولو كان مضمونها ذو طابع دستوري، وهو ما يؤدي إلى بعض التناقض من حيث إضفاء الطبيعة الدستورية على كل القواعد القانونية الموجودة داخل دفتي الوثيقة الدستورية حتى ولو كان مضمونها خلاف ذلك، وفي نفس الوقت استبعاد بقية القواعد القانونية الغير محتواة في هذه الوثيقة الرسمية حتى ولو كان الكثير منها ينظم مسائل دستورية والواقع يثبت كثرتها، لأن الوثيقة الدستورية متناهية لا يمكنها احتواء مجمل القواعد القانونية الدستورية نظرا لكثرتها.
ولعل هذا التعريف ارتبط بموجة الدساتير المكتوبة التي انتشرت في العالم ابتداء من منتصف القرن الثامن عشر، كبديل للدساتير العرفية.
  
ب.من خلال المعيار الموضوعي
لا ينحصر معنى الدستور من الناحية الموضوعية على القواعد القانونية المحتواة في وثيقة رسمية مكتوبة، بل يتعداها، حيث تعتبر من قبيل الدستور القواعد القانونية ذات الطبيعة الدستورية سواء تواجدت في الدستور بمفهومه الشكلي، أو في أي مصدر من مصادر القانون الدستوري، حتى ولو كانت قواعد قانونية عرفية .
ومعلوم أن القاعدة القانونية تكون ذات طبيعة دستورية كلما نظمت موضوعا من المواضيع المرتبطة مثلا بشكل الدولة من حيث اعتبارها موحدة أو مركبة، وبنظام الحكم وطريقة ممارسة السلطة فيه، واختصاص السلطات والعلاقة في ما بينها، وحددت حقوق الأفراد وحرياتهم وبينت واجباتهم.
ويظهر من خلال التعريف الموضوعي للدستور أنه أشمل وأكثر واقعية، لأنه من غير المعقول من الناحية العملية أن تحتوي وثيقة دستورية أو عدة وثائق كل القواعد القانونية ذات الطبيعة الدستورية، فعادة ما تكتفي الوثيقة الرسمية المكتوبة بوضع المبادئ العامة وتترك التفاصيل لبقية مصادر القانون، وأولها التشريع عاديا كان أو فرعيا، كما أن الممارسة قد تستدعي تفسير وتكملة القواعد القانونية المكتوبة، وهو الدور الذي يقوم به كل من العرف والقضاء والفقه.